الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال السمرقندي: إباء الشهادة على ثلاثة أوجه:أحدهما: أن يمتنع عن أدائه.والثاني: أن يشهد ويقصر في أدائه، لكيلا تقبل شهادته.والثالث: بأن لا يصون نفسه عن المعاصي، فيصير منهما لا تقبل شهادته، فكأنه وهو الذي أبطل حق المدعي، وخانه حيث عصى الله تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته. اهـ..قال الفخر: في هذه الآية وجوه:الأول: وهو الأصح: أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها.والثاني: أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة واختيار القفال، قال: كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة، كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة، لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر، وفي عدمهما ضياع الحقوق.الثالث: أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره.الرابع: وهو قول الزجاج: أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولًا، والأداء ثانيًا، واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه:الأول: أن قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} يقتضي تقديم كونهم شهداء، وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة، فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء.فإن قيل: يشكل هذا بقوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} وكذلك سماه كاتبًا قبل أن يكتب.قلنا: الدليل الذي ذكرناه صار متروكًا بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية.والثاني: أن ظاهر قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} النهي عن الامتناع، والأمر بالفعل، وذلك للوجوب في حق الكل، ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل، فلم يجز حمله عليه، وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل، ومتأكد بقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} فكان هذا أولى.الثالث: أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه، فصار الأمر بتحمل الشهادة داخلًا في قوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} فكان صرف قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} إلى الأمر بالأداء حملًا له على فائدة جديدة، فكان ذلك أولى، فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها.واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعينًا، وإما أن يكون فيهم كثرة، فإن كان متعينًا وجب عليه أداء الشهادة، وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضًا على الكفاية. اهـ..قال القرطبي: قال علماؤنا: هذا في حال الدعاء إلى الشهادة.فأمّا من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلمها مستحقُّها الذي ينتفع بها، فقال قوم: أداؤها ندب لقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} ففرض الله الأداء عند الدعاء؛ فإذا لم يُدْع كان ندبًا؛ لقوله عليه السَّلام: «خير الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» رواه الأئمة.والصحيح أن أداءها فرض وإن لم يُسْألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، أو بطلاق أو عتق على من أقام على تصرفه على الاستمتاع بالزوجة واستخدام العبد إلى غير ذلك؛ فيجب على من تحمل شيئًا من ذلك أداءُ تلك الشهادة، ولا يَقِف أداؤها على أن تسأل منه فيضيع الحق؛ وقد قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقال: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86].وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فقد تعيّن عليه نصره بأداء الشهادة التي له عنده إحياءً لحقه الذي أماته الإنكار. اهـ..قال ابن عاشور: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} عُطف {ولا يأب} على {واستشهدوا شهيدين} لأنّه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نَهى من يُطلب إشهاده عن أن يأبَى، ليتم المطلوب وهو الإشهاد.وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتمامًا بما فيه التفريط.فإنّ المتعَاقدين يظنّ بهما إهمال الإشهاد فأمرا به، والشهود يظنّ بهم الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضدّه.وتسمية المدعوِّينَ شهداء باعتبار الأوّل القريبِ، وهو المشارفة، وكأنَّ في ذلك نكتة عظيمة: وهي الإيماء إلى أنّهم بمجرّد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعيّنت عليهم الإجابة، فصاروا شهداء.وحذف معمول دُعوا إمّا لظهوره من قوله قبله {واستشهدوا شهيدين} أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمّل، وهذا قول قتادة، والربيع بن سليمان، ونقل عن ابن عباس، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأوْلى، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم، أي إذا ما دعوا للتحمّل والأداء معًا؛ قاله الحسن، وابن عباس، وقال مجاهد: إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة، ولعلّ الذي حمله على ذلك هو قوله: {الشهداء} لأنّهم لا يكونون شهداء حقيقة إلاّ بعد التحمّل، ويبعده أنّ الله تعالى قال بعد هذا {ولا تكتموا الشهادة} [البقرة: 283] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء.والذي يظهر أنّ حذف المتعلِّق بفعل {دعوا} لإفادة شمول ما يُدعَون لأجله في التعاقد: من تحمّل، عند قصد الإشهاد، ومن أداء، عند الاحتياج إلى البيّنة. اهـ..قال الخازن: اتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود، وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} يعني من كان مرضيًا عندكم في دينه وأمانته والشرائط المعتبرة في العدالة.وقبول الشهادة عشرة وهي: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة، وأن لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع عنه بها مضرة، ولا يكون معروفًا بكثرة الغلظ والسهو، وأن لا يكون بينه وبين من شهد من عليه عداوة فشهادة الكافر مردودة لأن الكذاب لا تقبل شهادته.فالذي يكذب على الله أولى بأن ترد شهادته وجوز بعض أهل الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ولا تقبل شهادة العبيد وأجازها ابن شريح وابن سيرين وهو قول أنس ولا قول للمجنون معتبر على تصح شهادته.ولا تجوز شهادة الصبيان وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يجوز لأن الله تعالى قال: {ممن ترضون من الشهداء} والعدالة شرط وهو أن لا يكون الشاهد مقيمًا على الكبائر مصرًا على الصغائر والمروءة شرط وهي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهباة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر في نفسه شيئًا مما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب علم بذلك قلة مروءته وترد شهادته وانتفاء التهمة شرط فلا تقبل شهادة العدو على عدوه وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه لا في حق غيره ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وتقبل شهادته عليهما ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعًا عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدًا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم ولا ظنين في ولاء ولا قرابة» قال الفزاري: القانع التابع، أخرجه الترمذي.قوله: لا تجوز شهادة خائن أراد بالخيانة الخيانة في الدين والمال والأمانة فإن من ضيع شيئًا من أوامر الله أو ارتكب شيئًا مما نهى الله عنه لا يكون عدلًا.والغمر بكسر الغين الحقد والقانع هو السائل المستطعم وقيل: المنقطع إلى قوم يخدمهم فترد شهادته للتهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم والظنين بكسر الظاء المتهم. اهـ..قال القرطبي: لا تَعارُض بين قوله عليه السَّلام: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها» وبين قوله عليه السَّلام في حديث عِمران بن حصين: «إنّ خيركم قرنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا ثم يكون بعدهم قوم يَشَهدون ولا يُستشْهَدون ويخونون ولا يُؤتَمنون ويَنْذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السَّمَن» أخرجهما الصحيحان.وهذا الحديث محمول على ثلاثة أوجه:أحدها أن يُراد به شاهد الزور، فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يَتحمَّله ولا حُمِّلَهُ.وذكر أبو بكر بن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بباب الجابية فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كمقامي فيكم ثم قال: يا أيها الناس اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وشهادة الزور.الوجه الثاني أن يُراد به الذي يحمله الشّرَه على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يُسألها؛ فهذه شهادة مردودةٌ؛ فإن ذلك يدل على هَوًى غالب على الشاهد.الثالث ما قاله إبراهيم النخعِي راوى طرق بعض هذا الحديث: كَانوا يَنْهَوْنَنا ونحن غلمان عن العهد والشهادات. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}: قال ابن عاشور:{وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ}.تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مَجازان في الحقير والجليل.والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نُهوا عن السآمة هنا.والسآمة: الملل من تكرير فعلٍ مَّا.والخطاب للمتداينين أصالة، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب: لأنّ المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب.والنهي عنها نهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، لأنّ السآمة تحصل للنفس من غير اختيار، فلا ينهى عنها في ذاتها، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون.وانتصب صغيرًا أو كبيرًا على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أو على حذف كانَ مع اسمها.وتقديم الصغير على الكبير هنا، مع أنّ مقتضى الظاهر العكس، كتقديم السِنة على النوم في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] لأنّه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهّمات في قلة الاعتناء بالصغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير، لو اقتصر في اللفظ على الصغير.وجملة: {إلى أجله} حال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أي مُغيَّى الدّينُ إلى أجله الذي تعاقدا عليه، والمراد التغيية في الكتابة. اهـ.
|